Thursday, January 8, 2009

آليات الصمود


صارت لدي عادة جديدة أمارسها قبل النوم كل يوم في سريري بعد اختلاس قراءة عدة صفحات من كتاب ما وترديد المعوذتين والصمد والفاتحة سرا عدة مرات ويدي اليمنى تلامس تميم واليسرى على رأس زوجي. صرت –كي أتمكن من النوم- أتخيل عقلي وكأنه غرفة كبيرة ممتلئة بكراكيب الأفكار- أفكار عن وصفات طعام لوجبات تميم الأولى.. عن رغبتي الملحة في تعلم الرسم بشكل أكثر احترافية عوضا عن بعثرة الألوان في كل مكان على الورق الأبيض.. عن ضرورة تفريغ أكياس البقالة في المطبخ.. عن قصص قصيرة مبتورة.. عن ضرورة تحصين نفسي بأشياء جميلة –أولها لوحة كبيرة دافئة الألوان ومبهجة تعلق على أي حائط من حوائط المنزل لتؤنسني وتحميني من البرد في هذا الشتاء الغامق!

قلت أتخيل عقلي وكأنه غرفة أرضيتها باركيه وبها شباك كبير يتصدر الحائط الوحيد الذي يظهر جزء منه في وسط هذه الكراكيب.. النافذة تمد الغرفة باضاءة خفيفة في حين أتناول مكنسة يدوية (مقشة) وأكوِّم كراكيب الأفكار على جانبي الغرفة حتى تخلو المساحة أمام عيني تماما.. وكلما أقبض على فكرة تتمشي في فضائي لا أناقشها، بل أكنسها بعيدا حتى لا أفكر في شيء..

اسمح لصورة واحدة فقط أن تسبح في ذهني.. فتاة صغيرة ترتدي فستان واسع قصير مشجر بوردات صغيرة تدور حول نفسها مقلدة حركات راقصات البالية.. تدور وتدور وتدور..
حتى أنام..
***
تلهمني لحظات إخلاء الذهن هذه وتذكرني بأنه مر زمن طويل على آخر مرة مارست فيها التأمل بشكل جدي.. منذ حملي بتميم تقريبا.. والتأمل –عبر تمارين اليوجا مثلا أو بالجلوس فقط ومراقبة التنفس- علمني كيف أستمع إلى جسدي.. كيف أتعامل معه.. كيف أحدد ما يوجعني فيه وكيف أراقبه وأهتم به.. لكن لا شيء علمني أن أحترم جسدي مثل تجربة الولادة..

طوال التسعة أشهر وأنا أتعامل مع وجود طفل داخلي ومع بطني المنتفخة وكأنها جزء مني.. وكأن شكلي سيصبح هكذا للأبد.. وكأن ما زاد بداخلي هو مجرد امتداد للأمعاء مثلا أو عضو جديد مستحدث "ثابت". حتى عندما كنت استشعر ركلات "تميم" لم أكن أتصور معنى أن يخرج هذا الكائن للنور.. وماذا سيحدث لجسدي بعدها والأهم أين سيذهب الانتفاخ وكيف سأعيش بدونه؟

أن أدخل في غيبوبة واستيقظ لأجد أنني أصبحت اثنان.. الأول واحدة قد تشبهني من بعيد والآخر كائن متناهي الصغر متورم مليء بالصراخ.. هذا أمر قد يقود للجنون.. بل معجزة كنت استوعبها تدريجيا على مدار شهور، ولا أعتقد أنني سأستوعبها تماما أبدا.

لذا عندما قررت العودة للتأمل للمرة الأولى عبر اليوجا لم أكن مجهزة نفسيا تماما لما حدث..
فالجسد صار أشبه بآلة قديمة "مركونة".. كل حركة يلازمها صرير من نوع ما.. حتى أذني شرعت في الطنين بمجرد أن أملت رأسي للأمام لعدة دقائق.. لكنني رحبت بالتجربة وقاتلت من أجلها.. أعلنتها له بعبارة واضحة وقاطعة ومترجية وتكاد أن تمتزج بالدموع "لا أريد أي إزعاج لمدة نصف ساعة فقط من فضلك.. سأغلق الغرفة عليّ، وإذا استيقظ تميم العب معه في أبعد مكان بالشقة" وسعدت فعلا بنصف ساعة اليوجا تلك، بالرغم من خذلان جسدي لي..
***
(بعد مرور أيام على كتابة ما سبق...)

أمام إناء يغلي على النار وفي فترة قيلولة تميم –التي لا تزيد عن ربع ساعة بأي حال من الأحوال- أقف عاقدة حاجبي وأسأل نفسي عن نفسي.. وعن مكانها من أنا.. واعترض في ذهني على لقب "أم تميم" فهو –بقدر روعته- يصنفني ويلخصني ويبترني..

أقول لنفسي "شاطرة..بتقاوحي..شاطرة.. لسه بتفكري".. وأكافيء نفسي على اقتناصي للحظات التأمل السابقة بالشيكولاتة البيضاء التي أطلبها من زوجي فيأتي لي بها من محل تحت البيت.. وعندما يأتي أخبره ما بقلبي.. أخبره عن خوفي من ألا أصبح غادة التي أحبها.. ثم أثور.. أقول له أن كثرة الأدوار أربكتني.. كيف أكون الحبيبة والصديقة والشغالة والممرضة والطباخة والأم والعشيقة؟ القارئة والكاتبة والمترجمة؟ المثقفة المطلعة على أحدث الأخبار وكبيرة خبراء تغيير البامبرز؟ كيف أكون تلقائية بعد أن صار يلزمني ساعات لتجهيز شنطة تميم قبل الخروج من المنزل؟ كيف أكون متوازنة نفسيا وفي نفس الوقت مصابة بوسواس قهري يتعلق بتعقيم كل ما تصل إليه يد تميم؟

أقول له كل هذا كما هو.. متطاير.. مبعثر.. غاضب..في غير وقته ربما.. ينظر لي قبل أن يضع الشيكولاتة في يدي ويقول: عارف إنك بتقاومي.. صدقيني عارف..